سورة النور - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


قلت: {يوم تشهد}: ظرف للاستقرار، في لهم، أو: معمول لا ذكر.
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين يرمون}؛ يقذفون {المحصَنَاتِ}؛ العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة، {الغافلاتِ} عنها على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها، أو السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يُجربن الأمور، {المؤمنات}؛ المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به، إيماناً حقيقياً لا يُخالجه شيء مما يكدره. عن ابن عباس: هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: جميع المؤمنات؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل: أريدت عائشة وحدها، وإنما جمع؛ لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قذفهنّ.
ثم ذكر الوعيد، فقال: {لُعِنُوا في الدنيا والآخرة}، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً، {ولهم} مع ذلك {عذابٌ عظيم}، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ؛ لعظم ما اقترفوه من الجناية، إن لم يتوبوا، فيعذبون.
{يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون} أي: بما أَفكوا وبَهَتُوا {يومئذٍ يُوفّيهم الله دينَهُم} أي: يوم تشهد جوارحُهم بأعمالهم القبيحة يُوفيهم الله جزاءهم {الحقَّ} أي: الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة، أو الذي هم أهله، والحق: صفة لدينهم، أو لله، ونصب على المدح. {ويَعْلَمُونَ} عند ذلك {أن الله هو الحقُّ} الثابت الواجب الوجود {المبين}؛ الظاهر البين؛ لارتفاع الشكوك، وحصول العلم الضروري؛ لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعداً غيباً.
ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة- رضي الله عنها- فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ، وفَصَّل، وأَجَمَلَ، وأَكَّدَ، وكَرَّرَ، وما ذلك إلا لأمر عظيم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته، إلا مَن خاض في أمر عائشة- رضي الله عنها)، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله تعالى أربعة؛ برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه: أنه آدر، بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بنطق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجود الدهر، بهذه المبالغات. فانظر: كم بينها وبين تبرئة أولئك؟! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله، والتنبيه على إنَافَةِ محله صلى الله عليه وسلم.
وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك، فقال: كيف تبقى زوجة نبيكم، مع رجل أجنبي؟ فقال له من كان يناظره من العلماء: قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم فبُهت الذي كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد مدح الله تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أوصاف، هي من أكمل الأوصاف: العفة، والتغافل، وتحقيق الإيمان؛ أما العفة: فهي حفظ القلب من دخول الهوى، والجوارح من معاصي المولى، وأما التغافل: فهو الغيبة عما سوى الله، والتغافل عن مساوئِ الناس.
وفي الحديث: «المؤمن ثلثاه تغافل»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «المومنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، والمنافقُ خَبٌّ لَئِيمٌ» وأما تحقيق الإيمان فيكون بالتفكر والاعتبار، وبصحبة الصالحين الأبرار، ثم يصير الإيمان ضرورياً بصحبة العارفين الكبار.
قال القشيري: قوله تعالى: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين}: تصير المعارف ضروريةً، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره. ويقال: لا يشهدون هذا إلا بالحق، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم، من غير أن يردهم عليهم. اهـ. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {الخبيثاتُ} من النساء {للخبيثين} من الرجال، {والخبيثون} من الرجال {للخبيثات} من النساء. وهذه قاعدة السنة الإلهية، أن الله تعالى يسوق الأهل للأهل، فمن كان خبيثاً فاسقاً يُزوجه الله للخبيثة الفاسقة مثله، ومن كان طيباً عفيفاً رزقه الله طيبة مثله. وهو معنى قوله تعالى: {والطيباتُ} من النساء {للطيبين} من الرجال {والطيبون} من الرجال، {للطيباتِ} من النساء، فهذا هو الغالب.
وحيث كان- عليه الصلاة والسلام- أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، تبين كون الصديقة- رضي الله عنها- من أطيب الطيبات، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات، حسبما نطق به قوله تعالى: {أولئك مبرؤون مما يقولون}، على أن الإشارة إلى أهل البيت، المنتظمين في سلك الصِّدِّيقِيَّةِ انتظاماً أولياً، وقيل: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدِّيقة وصفوان، وما في أسم الإشارة معنى البُعد، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبُعْدِ منزلتهم في الفضل، أي: أولئك الموصوفون بعلو الشأن: مبرؤون مما يقوله أهله الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وقيل: {الخبيثات} من القول تقال {للخبيثين} من الرجال والنساء، أي: لائقة بهم، لا ينبغي أن تقال إلا لهم. {والخبيثون} من الفريقين أَحِقَّاءُ بأن يُقَالَ في حقهم خبائث القول. {والطيبات} من الكلم {للطيبين} من الفريقين، مختصة بهم، وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم. {أولئك} الطيبون {مبرؤون} مما يقول الخبيثون في حقهم.
فمآله تنزيه الصديقة أيضاً. وقيل: الخبيثات من القول لا تصدر إلا من الخبيثين، والطيبات من الكلمات لا تصدر إلا من الطيبين، وهم مبرؤون مما يقوله أهل الخبث، لا يقع ذلك منهم أَلْبَتَّةَ، {لهم مغفرة} لما لا يخلو عنه البشر من الذنب، {ورزق كريم}؛ هو نعيم الجنان.
دخل ابن عباس رضي الله عنه على عائشة- رضي الله عنها- في مرضها، وهي خائفة من القدوم على الله عز وجل، فقال: لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم، وتلى الآية، فغشي عليها: فرحاً بما تلا. وقالت رضي الله عنها-: (قد أُعْطِيت تسعاً ما أُعْطِيَتْهُنَّ امرأة: نزل جبريل بصورتي في راحته، حين أمر- عليه الصلاة والسلام- أن يتزوجني، وتزوجني بكراً، وما تزوج بكراً غيري، وتوفي- عليه الصلاة والسلام- ورأسه في حِجْري، وقبره في بيتي، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخُلقت طيبة عند طيب، ووُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً).
الإشارة: الأخلاق الخبيثة؛ مثل الكبر، والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد، والحسد، وحب الجاه والمال، للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، فهم متصفون بها، وهي لازمة لهم، إلا أن يَصْحُبوا أهل الصفاء والتطهير، فيتطهرون بإذن الله، والأخلاق الطيبات؛ كالتواضع، والإخلاص، وسلامة الصدور، والزهد، والورع، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة، للطيبين، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات. أولئك مبرؤون مما يقول أهل الإنكار فيهم، لهم مغفرة؛ ستر لعيوبهم، ورزق كريم لأرواحهم؛ من قوت اليقين، وشهود رب العالمين. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} أي: بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها، {حتى تستَأْنسوا}؛ تسأذنوا، وقُرىءَ به، والاستئناس: الاستعلام، والاستكشاف، استفعال، من أنَس الشيء: أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال، مستكشف له، هل يؤذن له أم لا، ويحصل بذكر الله جهراً، كتسبيحة أو تكبيرة.
أو تَنَحْنُحٍ، {وتُسلِّموا على أهلها}، بأن يقول: السلام عليكم، أَأَدْخُلُ؟ ثلالث مرات، فإذا أُذن له، وإلا رجع، فإن تلاقيا، قدّم التسليم، وإلا، فالاستئذان. {ذلكم} أي: التسليم {خيرٌ لكم} من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية.
كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول: حُييتم صباحاً، حييتم مساءاً، فربما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحاف. رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أَأَسْتأذنُ على أمي؟ قال: «نَعَم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دَخَلْتُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أتحُبُّ أن تراها عريانة...؟» {لعلكم تذكَّرون} أي: أمرتكم به، أو: قيل لكم هذا؛ لكي تتعظوا وتعملوا بموجبه.
{فإن لم تجدوا فيها}؛ في البيوت {أحداً} ممن يستحق الإذن، من الرجال البالغين وأما النساء والولدان فوجودهم وعدمهم سواء، {فلا تدخلوها}، على أن مدلول الآية هو النهي عن دخول البيوت الخالية؛ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه، وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فمن باب الأولى؛ لما فيه الاطلاع على الحريم وعورات النساء. فإن لم يُؤذن لكم فلا تدخلوا، واصبروا {حتى يُؤْذَنَ لكم} من جهة من يملك الإذن، أو: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها؛ لأن التصرف في ملك الغير لا بد أن يكون برضاه.
{وإن قيل لكم ارجِعُوا} أي: إذا كان فيها قوم، وقالوا: ارجعوا {فارجعوا} ولا تُلحُّوا في طلب الإذن، ولا تقِفُوا بالأبواب، ولا تخرقوا الحجاب؛ لأن هذا مما يُوجب الكراهية والعداوة، وإذا نهى عن ذلك؛ لأدائه إلى الكراهية؛ وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها؛ من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك. وعن أبي عبيد: ما قرعت باباً على عالم قط. فالرجوع {وهو أزْكَى لكمْ} أي: أطيب لكم وأطهر؛ لِمَا فيه من سلامة الصدور والبُعد عن الريبة، والوقوفُ على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة. {والله بما تعملون عليم}؛ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه، فيجازيكم عليه. وهو وعيد للمخاطبين.
{ليس عليكم جُنَاحٌ} في {أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونةٍ} أي: غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة، بل يتمتع بها مَنْ يُضطر إليها، من غير أن يتخذها مسكناً؛ كالرُّبَطِ، والخانات، والحمامات، وحوانيت التجار.
{فيها متاعٌ لكم} أي: منفعة؛ كاستكنانٍ من الحر والبرد، وإيواء الرجال والسلع، والشراء والبيع، والاغتسال، وغير ذلك، فلا بأس بدخولها بغير استئذان. روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلِفُ في تجارتنا إلى هذه الخانات، فلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت. وقيل: هي الخرابات، يُتَبَرَّزُ فيها، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره، والظاهر: أنها من جملة ما ينتظم في البيوت، لا أنها المرادة فقط. {والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون}، وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل؛ لفسادٍ أو اطلاعٍ على عورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التصوف كله آداب، حتى قال بعضهم: اجعل عملك مِلْحاً وأدبك دقيقاً.
فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم، ودخولهم وخروجهم، فهم أَولى بالأدب، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم؛ برفع صوتهم بذكر الله، أو بالتسبيح، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم، أو منزل بعضهم بعضاً. وأما مع الشيخ: فالأدب هو الصبر حتى يخرج، تأدباً بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} [الحجرات: 5]، فلا يقرعون بابه، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8